كذب أهل مصر


تقابل شخصاً جديداً، تقول له اسمك وتسمع اسمه فيسألك من أين أنت؟

"مصر"

تقولها وأنت متخيلاً وجه السيد الرئيس البلبيسي جنباً إلى جنب مع مؤخرة عماد الكبير، ترددها وأنت متخيلاً ميدان التحرير يوم موقعة الجمل، تهتف باسم موطنك وتشعر بألم في ظهرك من تلك الحديدة التي أصابت كل ميكروباص كعدوى فيروس وبائي .. أنت لا ترى الأهرامات بل أكوام القمامة، لا تتخيل وادي الملوك بل مقابر من ماتوا في سبيل حرية واهمة، لا تسمع ضحكات السياح الروس في شرم الشيخ بل نحيب الغارمات في المحاكم، لا تتصور سهرات في بارات مصر الجديدة بل تلك الشابة التي أمسك شاب بصدرها أمامك فأشحت نظرك لأنك لا تستطيع أن تتصدى لأربع شباب وحدك. تقولها بدون مشاعر أو حماس

"مصر"

كانت سجن لك حتى استطعت الهروب. لقد تعبت كثيراً وسهرت الليالي حتى تمكنت من القدوم لماما أميريكا. موطنك كان عقاباً وأنت الآن تنعم بالمكافأة بعدما دفعت الثمن للدولة، مثل أي مجرم في أي نظام.

ويحدث ما لا يخطر ببالك .. كل مرة لا تتوقعه وفي كل مرة تتلقى ذات الرد
"كوول"
ما دهى هؤلاء المغفلون؟ ما هو "الكوول" في مصر؟ أ شرطة لا تستجيب لمستنجديها؟ أو شارعاً يفتك بكل مؤنث؟ أ فساد ناخراً لكل فرد من أصغرهم لأكبرهم؟ أ فقر رائحته تزكم الأنوف ونحن مهملين له ومسلطين الأضواء على فندق القوات المسلحة؟ أ هو الظلم؟ ما هو الكوول؟

عقلك يصطدم بكل هذا فترد شارداً
"فعلاً؟"
يتعجب الأمريكي أو الأوروبي ويؤكد على مدى "كوول" مصر. ثم تدير دفة الحوار لشئ آخر، فقط لتشتت أفكارك من اجتياز القشرة السطحية مما تكرهه في مصر، مما تكرهه في وطنك، مما تكرهه في بيتك. كل ما ذكرت هو قشور يمكن تجاوزها. حتى الظلم. إن الحياة لم تكن يوماً عادلة، فلمَ تتوقع العدل أن يولد في بلدك؟ لتشتت ذهنك من الوحش الكاسر:
الكذب!

إنه الكذب. هذا ما لم أطيقه في مصر و احتجت للهروب منه. لم أعد أستطع التعايش مع الكذب. كان ثقيلاً للغاية. يا الله كم كان ثقيلاً. لم أعد قادراً على الكذب على أمي، على أبي، على أختي، على أصدقائي، على معارفي. كنت أكذب على نفسي حتى شُفيت. فوجدت نفسي غارقاً في الكذب على الآخرين وكان عليّ الهروب. إن الكذب يطبق عليك من كل الاتجاهات وإما الانفجار أو العودة للكذب على النفس. لم أستطع أن أكذب على ذاتي مجدداً. كنت أذكى من ذلك، للأسف.
أوتعلم أحد أسوأ النقاط في الغربة؟ أن الكذب لم يكف. إنك فقط تبتعد عنه وتحظى بفترات راحة. مثل المدرسة، فسحة. وتبتعد أكثر وتزيد من وقت الفسحة. ثم تزوغ من الفصل اليوم و غداً. وتنئى أكثر فأكثر عن المدرسة. ولكن كلنا نعلم أنك عليك العودة يوماً ما. عليك أن تسجل حضورك لتجتاز أعمال السنة. عليك الظهور في الامتحانات. لا مفر من الحصص. إنك تستمتع أياماً متمرغاً في الحقيقة، فقط ليظهر اسم والدتك على هاتفك فتعود إلى الفصل وتكذب، وتعود إلى الوهم.

 إن مصر وهماً كبيراً! إن المجتمع المصري يحيا كذبة جماعيةً. كل فرد يحاول جاهداً أن يتلون ويتزين حتى يصبح ملائماً لهذا الوهم. ولكن لا أحد مناسباً له. لا أحد يليق بهذه الحياة أو يريد أن يحيا بها. إنها خدعة قديمة، نخدع أنفسنا بها ونخدع الآخرين. ثم نلد أطفالاً ونرثهم تلك الخدعة فينقلونها بدورهم إلى أطفالهم من بعدهم. الكل بائس وتعيس. يحيا الناس لحظات قصيرة متقطعة من السعادة، تلك اللحظات تكون خارج نطاق الخدعة، تكون في الحقيقة. ثم يعودون للكذب مجدداً.

أنا لا أعلم لماذا يصرّ المصريون على تلك المصفوفة اللعينة؟ في الفيلم كانت المصفوفة جميلة تلهي الناس عن حقيقة الحرب. ولكن في مصر يحدث العكس. إن المصفوفة كئيبة تعيسة بينما الحقيقة -على بؤس وجودها- أقل إيلاماً من المصفوفة. ومع ذلك، يصممون على الحياة في المصفوفة، على الالتزام بصفوفها وعواميدها، على النفور من التميز والتفرد والتمسك بالجماعية الماسخة.

لقد سئمت الكذب وإن كنت أتقنه و أبغض وطني لأنه علمني أن أتقنه. لقد أصابتني مصر بالكذب المرضي! يا وطني، يا أهلي، يا أحبائي، كم أردت أن أهتف بالحقيقة، كم تمنيت أن أكون صادقاً واضحاً أمامكم، كم حلمت أن أروي لكم عما حدث بالأمس وأسعدني وأين ذهبت من شهر مضى وأبهجني. أريدكم أن تعيشوا معي ضحكاتي. أحد أمانيّ المعدودة في هذا البؤس الذي ندعوه حياة هي أن أشارككم حياتي بدلاً من أن أسحق ذاتي لأخفيها عنكم. يا أمي، كم أردت أن أرتمي في حضنك حين تكسر قلبي فتاة، بدلاً من أن أشيح بعيني الدامعة بعيداً عنك. لقد قسوتي علينا يا مصر. يا صديقي، مصر ليست "كوول"، أبداً لم تكن.

Comments

Popular posts from this blog

Her, Herself, and I

The Life Tunnel

Ether – A Short Story