نسمة أمل عند سفح الهاوية


كان مساء الرابع عشر من أغسطس 2014، كان خميساً. كنت قد وصلت حديثاً لمدينة لوس أنجلوس البرّاقة بولاية كاليفورنيا. كنت تائهاً في الأيام الأولى لا أدرى أين أنا أو ماذا أفعل بحياتي. إنها صفحة جديدة فقلت لنفسي أنه يمكنني أن أنسى كل شئ وأبدأ من جديد. لا يعرفني أحد هنا، فشخصيتي ورقة بيضاء، بل شفافة! يمكنني كتابة ما أريد، أو رسم ما أريد بأي لون أشاء. 

طالما كنت إنساناً ملتزماً محافظاً، فلأغيّر ذلك وأصبح لعوباً، لن يشك أحداً للحظة إنني لم أكن لعوباً طوال حياتي. طالماً كنت حاداً وصريحاً، فلأحترف الكذب والمجاملة ليحبني الناس. كنت سميناً جداً، فلأصبح مدمناً للصالات الرياضية ورمزاً للياقة البدنية والطعام الصحي. كان شعري طويلاً وذقني كانت حليقة، حسناً، هيا نعكس هذا، من اليوم أنا حليق الرأس  كثيف الذقن. لم أرتدي ألواناً زاهية في حياتي، سأرمي كل ملابسي وأرتدي الأحمر والأزرق .. نفساً عميقاً .. أحتاج أن أهدأ قليلاً .. كل هذه الأفكار كانت تراودني في الطائرة في الثامن والتاسع من أغسطس .. ليس هذا ما أريد التحدث عنه، فلنعود ليوم الخميس الرابع عشر.

الأسبوع الأول كان سريعاً جداً، لم أستلم غرفتي حتى الثاني عشر، ساعات نومي كانت متبعثرة قلقة، لم أجد دقيقة لأهدأ وأفكّر. الليلة هي أول يوم يمكنني إلتقاط أنفاسي. قررت أن أخرج وأمشي قليلاً، كانت الساعة التاسعة مساءاً وكنت قد سئمت تحذيراتهم من التمشي في الظلام وحيداً في الشوارع المحيطة. ما هذا العبث، أنا أتيت من مصر، أ لوس أنجلوس أقل أماناً من شوارع القاهرة والإسكندرية؟ في هاتفي أرقام تليفون من أربع لخمسة جهات أمنية مختلفة أعطوني إياها إن احتجت شيئاً. في مصر إن اتصلنا بـ 122 لن يرد أحدا، وإن أجاب فسيثرثر معك كخالة لك أو عمة ثم لا يفعل شيئاً. أم أني سأجد في لوس أنجلوس "ست حنان" تاجرة المخدرات التي يعرفها ويعرف عنوانها كل سكان الشارع ولا نذهب هناك ليلاً حتى لا نقلق تجارتها. أنا في حاجة لأستنشق الهواء. تركت الغرفة وذهبت للمشي.

كان الشارع هادئاً خالياً من الناس. أرى أنوار وسط البلد أو "الداونتاون" من بعيد، والسيارات تسير في نظام لم أعتاد عليه حينها. رفعت نظري إلى السماء حيث اعتدت أن أنظر وأحدّث الله، لكن الله لم يعد موجوداً. ثم انتابتني فكرة، في لحظة، فجأةً، فكرة لم أنسها. فكرة جعلتني أتذكر تلك الليلة جيداً على الرغم من أنه لم يحدث أي شئ.

من أسبوع فقط، كنت في مصر، في الاسكندرية. كنت لا أملك شيئاً. كنت أركب الميكروباصات البائسة وأدفع نفسي بين شيخ وعجوز لأظفر بمقعد بارد بلا مسند، مقعد مهتز في سيارة مهترئة مع انعدام كافة وسائل الأمان والراحة. كنت أسير في شوارع متسخة يفوح منها رائحة العرق والفقر. كان الهواء مثقل بغيوم القمع السياسي واليأس وانعدام الأمل. كلما كنت أتحدث مع أحد أتعجب من انعدام المنطق والتغييب الديني وبروز الجهل. كانت الضغوط المجتمعية والنمذجة تطبق على أنفاسي وتقتلني ببطء. كنت كشبح لا أثر مادي له على ما حوله، أطفو فوق الشوارع المحطمة والرصفان المدمرة. ماتت دوجمة مراهقتي واغتصب الوضع السياسي أمل بداية شبابي. كنت ناجحاً في نظر الجميع، مكتئباً بائساً من الداخل. لا أرى إلا سواداً وهاوية لا سفح لها. هربت لأرى حياةً، لأرى نوراً، لأتنفس ولو للحظة واحدةً.

وها أنذا! أسير في شوارع لوس أنجلوس الشهيرة. أتنفس الهواء البارد في المدينة التي طالما رأيتها في الأفلام والمسلسلات التي ظننت أنها سريالية أو ضرب من ضروب الفانتازيا. في هذه الليلة لم أشعر بشئ يثقل على أنفاسي، اتسعت رئتاي من الداخل كأنها تعلم شئ لم أبلغها به. في تلك الليلة رأيت ما بعد الهاوية، إن الهاوية ليست إلا نفقاً له نهاية تؤدي إلى حياة مليئة بالسرور والأمل والاحتمالات. 

كم كنت مغفلاً في ليلة الرابع عشر من أغسطس في 2014. لم أعد أركب الميكروباص، ولكن لتحصل على شيئاً، لابد لك من دفع طفلاً وشيخاً لتناله في عالمنا الرأسمالي القمئ. رائحة العرق والفقر موجودة في لوس أنجلوس كما أنها تفوح من نيو يورك ومن سان فرانسيسكو. المنطق منعدم عند غالبية البشر وليس في مصر وحدها. التغييب الديني منتشر وإن قلّ أثره. الجهل هو سمة هذا العالم بلا منافس. لا فرصة لأي أمل أوسرور وسط هؤلاء الهوموسيبيانز. إني أرى الحياة الآن بوضوح، إن الخروج من مصر كالخروج من عنق زجاجة عتيقة متسخة. ولكن الزجاجة موجودة في مقلب للقمامة وهو الكون الذي نحيا فيه. 

لا تسئ فهمي أنا أعشق هذه المدينة ولا أريد أن أحيا في مكان أخر. أحب فيها كم يريد البسطاء الفرح الوقتي بأي وسيلة. أحب البساطة النابعة من حقيقة أن كل فرد في المدينة جاء من ركن متنوع من أنحاء العالم ويتحدث لغة ولكنة مختلفة ولكنهم يحيون ككيان واحد. أحترم فيها كم يعطي كثيراً من الأفراد الوقت والمساحة للآخرين، يعطون فرصة لبعضهم البعض ويحترمون مساحة الأخر. أكثر من أماكن كثيرة أخرى تُعرف أيضاً بالعالم المتقدم. ولكن هذا ليس كافي. 

الخروج من مصر لم يعني الخروج من هذا الكوكب البائس أو الوصول لنهاية هاوية العدم التي ندعوها حيواتنا. ولكنني كنت قد تمنيت أن أتنفس ولو للحظة واحدة وقد كانت. في ليلة الخميس الرابع عشر من أغسطس 2014 استنشقت رئتاي نسمة أمل للمرة الأولى في سنوات. لن أنسى تلك الليلة.

   

Comments

Popular posts from this blog

Her, Herself, and I

The Life Tunnel

Ether – A Short Story