أنا أسامحك يا صافيناز - قصة قصيرة

طرااااااااااااااااااااااااااااااااااااخ

فتح الواد ميدو باب المحل بصخب عالي كعادته، عكّر علىّ مزاجي الصباحي الجميل على غير عادتي .. دخلت أشعة الشمس المكان و ملأته بدفء و حرارة لم تستمر بعد أن استقر التكييف على درجة الحرارة المبينة على جهاز التحكم المتهتك .. بدأ ميدو برنامجه الصباحي بكنس الأتربة ثم مسح الأرضية و رش المياه غير المبرر أمام واجهة المحل ، أتقن عمله اليوم بسبب ما حدث البارحة حين اشتكى زبون من وجود أتربة في الدلو الذي أمسك به ليشتريه ، مما دفع الأستاذ توفيق لتهزيق ميدو تهزيقة معتبرة تتكرر من الحين للآخر .. فلم يهملني اليوم و أخذ يضربني بلطف بقطعة من القماش البرتقالي .. مممممم … أنا الآن في غاية من الانتعاش بعد أن تخلصت من كل هذه الأتربة ، يا إلهي ، من أين تأتي كل هذه الأتربة ؟! … صباح كله خير إن شاء الله.

دخلت البت عواطف المحل وهي تبتسم ابتسامة من يذهب للتصيد من أجل متعته الشخصية ، وهي ابتسامة لا توحي من قريب أو بعيد بمهمتها الحالية ، وهي شراء ذراع خشبية للمكنسة بعد أن انكسرت القديمة بالأمس .. مدام إيمان مصابة بحالة من الوسواس القهري بأن الأتربة في المنزل إن وُجدت ، فإنها تزيد من احتمالية الإصابة بمرض من الأمراض الوحشة ، عواطف قصت هذا الموضوع على ميدو من قبل و أنا سمعتهم جيداً ، و هي وصفت المرض بذلك لأنها لم تتذكر اسم المرض بالانجليزية كما تقوله لها المدام .. وهذا الوسواس هو السبب في تحطم أذرع المكنسة من حين لآخر ، بسبب استخدام المدام للمكنسة بهستيريا مبالغ فيها .. أتمنى أن أرى إيمان تلك وهي تكنس لأضحك قليلاً .. ميدو حاول إقناع عواطف أن تصورها بكاميرا الموبايل ، ولكن عواطف خافت .. سر الابتسامة أنا أعلمه جيداً ، وهي أن عواطف تستمتع بتخبط ميدو حين تتواجد في المحل .. هي تلاحظه و أنا أيضاً ألاحظه ، لا يمكنه التحكم في جمله وألفاظه حين تكون موجودة ، هي السبب في خصم أسبوع من مرتبه منذ شهرين ، حين كان يحاول السيطرة على أعصابه فاصطدم بإناء زجاجي وانكسر ، فدخل يومها أستاذ توفيق وبمنتهى الهدوء قال له:

- انت فاكرني حأتعصب و أزعق و أهزأ و كدة ؟ … والنبي أبداً … انت اللي حتدفع تمن الشفشق يا روح أمك

ولكني متأكدة أن عواطف أيضاً تبادل ميدو نفس التخبط ، رأيتها يوماً تصطدم بقائم واجهة المحل حين كانت تتدلل عليه و تبتسم ، ثم حين استدارت لتغادر بدلال ، اصطدمت بالقائم و أكملت طريقها دون أن تُظهر الألم .. ولكني رأيتها و أعلم ما تكمنه في نظراتها جيداً … غادرت عواطف بعد أن أخذت الذراع و لم تنس أن تلقي على ميدو نظرة أخيرة كأنها تودعه للاحقاً .. فاصطدمت تلك المرة بشاب ثلاثيني كان يدخل المحل وهو ينظر لهاتفه المحمول غير مكترث بالنظر أمامه … أسرعت عواطف الخطوات لتغادر و أدخل الشاب هاتفه في جيبه حتى لا يصطدم بشئ تلك المرة فيضطر أن يدفع ثمنه ، ثم أومأ رأسه محدثاً صوت غير مفهوم ، قال ما قاله الشاب وهو لا ينظر لأحد ، فقط يبحث بعينيه عما يبتغيه في أرجاء المحل … نظر إليه الأستاذ توفيق من أعلى لأسفل وهو يقول بعد تنهيدة متعمدة وبلهجة المشمئز من أخلاق الجيل الذي صار لا يفهم كيف يتعامل مع الناس و خاصة الأكبر سناً:

- وعليكم السلام أ بشمهندس … أؤمر

- أنا مش مهندس

قالها الشاب بوجه أكثر جديةً مما يتحمله الموقف وهو ينظر لأستاذ توفيق في عينيه مباشرة

- أنا أسف يا حضرة … عندي ديه … أؤمر أ غالي

- الأمر لله وحده يا سيدي .. قُصره عشان مستعجل … بكام ديه ؟

- التلاتة على بعض باكيدج يا باشا … تلات مقاسات … بلاستيك معتبر .. للتلاجة مش الماقروويف .. غطيان لو حاولت تكسرها بعزمك كله ، والله ، و الله ف سماه ما تتكسر … عاملة 25 بالصلاة عالنبي

- لأ مش قصدي على دول … أنا سألتك بكام ديه .. لو قصدي على العلب كنت قلتلك بكام دول

تدخل ميدو بحنكة الشارع ليأخذ الذي تجمع من غضب الأستاذ توفيق

- جرى يا باشا .. واحنا في حصة نحو هنا … ههههههه

- جرى ايه يابن الو**ة انت .. انت بترد عالباشا ؟!!

- خلاص خلاص هو ما يقصدش .. عايزين نخلص .. بكام ديه

قالها الشاب هذه المرة وهو يلمس ما يريد … نظر إليه أستاذ توفيق وهو يمسك بأعصابه على هذا الشاب قليل الحياء الذي يتحدث وكأنه الباشا وهو ابن الجنايني اللي معطله عن الديوان

- عشرين

- ماشي حأخدها .. حطهالي في كيسة

قالها الشاب وهو يخرج عشرين جنيهاً من جيبه ويضعها على الطاولة … كان الأستاذ توفيق يكاد يسب للشاب ويمسك في تلابيبه ولا يبيع له ما يريد ، حتى بدون كلمة من فضلك أو شكراً ونحن نخرج معاً من المحل.


فتح الشاب باب شقة متوسطة الحال في الدور الرابع من عمارة قديمة في حي سكاني مزدحم ، ثم ألقى بمفاتيحه في الطبق محدثاً ضجة عالية قبل أن يزيد من الضجة:

- صاااااافي … أنا وصلت .. فاضل كتير عالأكل ؟

جاء الرد بصوت أنثوي يدل على أن قائلته كانت تبكي منذ قليل:

- جبت اللي قلتلك عليه ؟

- أيوة يا ستي جبته … فاضل كتير عالأكل ؟

لم ترد صافي تلك المرة ، مما جعل الشاب يستشيط غضباً .. دخل غرفته و بدل ملابسه ثم خرج ذاهباً للمطبخ ليطمئن على الطعام بنفسه تلك المرة … لدهشته لم يجد صافي في المطبخ ، لم يجد أحداً من الأساس في المطبخ ، بل الأهم من ذلك ، لم يجد أي آثار لطبخ أو طعام يمكن أن يجهز في القريب العاجل … زاد من حدة صوته تلك المرة:

- صااااااافي … انتي فين يا بنتي ؟ … الله ! … هي راحت فين بنت الم****ة ديه كمان

ثم شعر بحركة في الحمام فاقترب من الباب قائلاً:

- صافيناز ، انتي جوة ؟ … هااا ؟

ثم أطرق على الباب بعنف غريب

- ردي يا ش****ة لو جوة .. مش حأعرف يعني بروح أمك لو مش جوة

لأول مرة في حياتي أشعر بهذا الاحساس .. احساس عجيب … أشعر أني سأفرح بأذية هذا الشخص ، سأكون سعيدة إن رأيته يتألم .. خبر موته لن يكون خبر تعيس أستعجب منه بـ "يا ساتر" حين يقولونه لي … هذه هي الكراهية إذن .. أن تريد تعاسة الشخص الذي تكرهه .. ألا تطيق رؤية وجهه ، ألا تستطيع تحمل وقع صوته على أذنك .. أن تصبح نظراته كلها يمكنك أن تجد لها مبرر شرير … ان تصبح طريقته في السير هي أكثر طريقة في السير لا تحتملها ، حتى وإن اشترك معه فيها نصف البشر … منه هو لا تحتملها … أستطيع القول اليوم أني فهمت معنى الكراهية .. أنا أكره هذا الشاب .. أكرهه

- عايز ايه ؟

ردت صافيناز أخيراً من داخل الحمام .. ردت تلك المرة بصوت مبحوح ، صوت مكسور ، صوت حزين … أنا لم أرَها من قبل و لكن أحببتها .. أشفقت عليها … صرت أريد أن أقابلها و أتمنى لو أستطع التحدث معها و طمأنتها

- ايه يا بنت د** الم****ة مابترديش على أهلي ليه ؟ … مش مالي عينك أنا .. مش سامعاني و أنا بأتزفت أنده على أمك ‼ … بأقولك خلصتي الأكل ولا لسة ؟ … طبعاً لسة … مانتي ش****ة بشلن ملكيش عازة .. فالحة تريحي ط*** قدام المسلسلات الموكوسة و مابتفكريش دقيقة في جوزك و احتياجاته … ** أمك عالصبح !

انتهت الفقرة بصوت أقدامه متجهة لباب المنزل

- طارق .. استنى ماتنزلش

قالتها صافيناز تلك المرة بصوت أكثر ضعفاً و لكنه مسموع … ثم أعقبت بصوت من تتمالك قوتها:

- الأكل جاهز من بدري … حأطلع أجيبهولك أهو

اندهش طارق لأنه لم يلحظ شيئاً في المطبخ ، فعاد مرة أخرى للتحقق بنفسه فلم يجد شيئاً أيضاً … فقرر الذهاب للصالة لمشاهدة التلفزيون حتى تحضر زوجته الطعام الذي تدعي أنه معد … لم يقدر تلك المرة على اخفاء ابتسامته … ابتسامة المنتصر ، فو يعلم كيف يسيطر على زوجته جيداً ، يجعلها تفعل له كل ما يشاء وقتما يشاء … لا يترك لها الفرصة لتفكر في طلبات و احتياجات تجعله يخسر مرتبه أولاً بأول كما يقص عليه أصدقاؤه

- والله انتوا شوية خ****ت بصحيح .. ما الجواز سهل أهو بس عايز دكر


- الأكل عالسفرة

سمع طارق الدعوة للطعام فأغلق التلفزيون و همّ قائماً في اتجاه صالة الطعام .. تعثر وهو يحاول أن يرتدي الشبشب على مرة واحدة وهو يسير ، سب الشبشب وهو يخرج من غرفة المعيشة ناظراً لأسفل لئلا يتعثر مرة أخرى لأنه لم يحكم السيطرة على الشبشب بعد ، ثم انتهى كل شئ في أقل من ثانية… مات طارق في الحال.

...

كانت صافيناز تقف مستندة بظهرها على الحائط منتظرة خروجه .. وحين لمحته يخرج متعثراً انهالت على قفاه بنصل السكين الطويل الذي اشترته خصيصاً لهذه المهمة … اخترق النصل رقبة طارق من الخلف و تناثرت الدماء على يدها … أخرجت السكين بسرعة مخيفة و أعادته مرة أخرى في ظهره تلك المرة … ثم أخرجته وأدخلته في ذراعه .. كان طارق قد تهاوى ساقطاً على السجاد ، غارقاً في كمية مهولة من الدماء .. ولكن هذا لم يوقفها … انهالت عليه بالطعنات بسرعة و قوة … كان شعرها يتناثر على وجهها .. الدماء تغطيها و تغطي جلبابها الكحلي الطويل … كانت أنفاسها متقطعها و عالية الصوت … أكاد أقسم أني كنت أسمع ضربات قلبها .. ولكن الأقسى كان صوت ضربات سكينها وهو ينهش في جثة طارق التي صارت كالمصفاة … من هول الصدمة لم أستطع احصاء الطعنات ، لو كنت أستطيع لكنت صرخت من البداية حين رأيتها رافعة السكين كاتمة لأنفاسها وهي مستترة خلف الحائط منتظرة خروج الرجل … استمرت صافيناز في طعن جثة طارق لدقائق طويلة … اختلطت فيها الدماء بالعرق بالدموع بالسباب باللعاب بالمخاط بالشعر ... يا لها من دقائق مرت كساعات طويلة و لكنني لم أحزن … وهذا ما يقلقني … لقد انتابني الرعب للحظات ، الصدمة كانت أكبر من الرعب أيضاً ولكني لم أشعر بالحزن .. ولم أشعر بالاشمئزاز … ولكني لست شريرة .. لقد عشت معهما دقائق وكرهته ، وهي أول مرة أشعر بالكراهية … لم أشعر بها في الصين و لم أعرفها طوال الرحلة البحرية الطويلة ، ولا إقامتي الأطول في محل الأدوات المنزلية مع الأستاذ توفيق و الواد ميدو … عرفتها مع طارق الذي لا أعرف سنه ، ولا مستواه التعليمي ولا وظيفته عدا أنه ليس مهندساً كما أوضحها للأستاذ توفيق بمنتهى السماجة .. ولا أعرف ظروف حياته أو الأحداث المحيطة بطفولته مراهقته أو شبابه… كل ما أعرفه أني أبغضه ، أكرهه من داخلي … و يا لها من مسكينة.

قامت صافيناز بعد أن استردت اتزانها و استفاقت … ألقت بالسكين في بحر الدماء ، ثم خلعت كل ملابسها و ألقتها أيضاً في ذات المكان … ثم ذهبت لتستحم … لم تمر دقائق قليلة حتى خرجت مرتدية جلباباً أحمر مثير ، رائحتها كانت أخّاذة ، ثم أمسكت بالكيس الذي يحملني واتجهت بنا إلى المطبخ … فتحت باب الثلاجة و أخرجت شيئاً ملفوفاً بورق فضي مكرمشاً … ثم أخرجتني من الكيس و فتحت غطائي واتجهت بي إلى الحوض و جعلتني أستحم أيضاً … إني أعشق المياه عشقاً جماً … لم أذقه إلا مرة أو اثنتين في حياتي ولكني أعشق هذه المرات وأتذكرها جيداً .. إن المياه تجعلني منتعشة و فرحة و متفائلة وكل الأحاسيس الإيجابية تلك … بعد الاستحمام جففتني بورق أبيض كبير ثم فتحت ما أخرجته من الثلاجة و وضعته بداخلي … شئ مدهن و ينزف دم ، لا هذا ليس دماً ، رائحته غريبة و قوامه قريب من الماء و لكن لونه أحمر كالدم ..ثم أمسكتني و فتحت باب الميكروويف … لا ، ما هذا ، أنا لست مصنعة للدخول للميكروويف ، يمكن استخدامي للثلاجة فقط ‼ هذا ما قاله ميدو لعواطف حين سألته عني في يوم ما … لا يا صافيناز ، توقفي ، سأحترق هكذا ... لم أتمنى يوماً أن أستطيع التحدث أكثر من هذه اللحظة ، صافيينناااااز ، لا لا … تزداد الحرارة حولي … إني أنصهر ، إني أحترق … إن صافيناز تنظر لي مندهشة … رأيت في عيناها انعكاس ما تراه … لم تعد ترى وعاءاً بلاستيكياً يحترق … إنها ترى ماضي مشتعل ، أحرق الحاضر و أمسكت نيرانه بما تبقى من مستقبلها … لقد قتلتني صافيناز رغماً عنها فهذا ليس خطؤها … كما قتلته رغماً عنها … ولكن العالم لا يلتمس الأعذار .. القانون ليس عادلاً … لقد احترقتُ بدون فرصة أخرى .. كما احترقت الزهرة بدورها دون فرصة أخرى … الوداع يا صافيناز ، أنا أسامحك … الوداع أيتها الحياة التي لم أر فيها الكثير … ولكني سعيدة أني لست وحدي من قُتلت هذا اليوم.

تمت
الاسكندرية، مصر، 29 أغسطس 2014

Comments

Popular posts from this blog

Her, Herself, and I

The Life Tunnel

Ether – A Short Story