خيانة الملل

Tony Hancock in his Hancock’s Half Hour series captured the boredom of life 50 years ago. © Getty Images

لقد مللت الحياة كافة .. ما هذا الملل؟ ما هذا؟ لم أكن أعلم أن مللاً بهذه الكثافة يمكنه أن يتواجد .. لقد مللت أنفاسي و رتابتها، و نبضات قلبي و تعاقبها .. لقد مللت أفكاري المملة .. لقد مللت العمل فهو بلا هدف، ومللت الراحة لبطئها .. لقد مللت النوم لاحتياجي إليه ومللت الجنس لسلطانه عليّ .. لقد مللت سقف غرفتي كما مللت سُحب السماء ونجومها البراقة .. مللت جسد صديقتي العاري و نظراتها المُحبة ليّ .. لقد مللت النجاح و شعوره الجميل .. مللت الذكاء و العلم و المعرفة .. مللت الرياضة كما مللت الطعام .

كيف تقرأ هذه السطور ولا تمل؟ ألا تشعر بمللي؟ ألا تشعر بما أشعر به؟ أ مللي سيطر على كتاباتي أيضاً؟ أتسائل بيني وبين نفسي وأنا أكتب هذه السطور: أ سيقرأها أحداً يوماً ما؟ و لمَ أنشرها؟ ونستون في 1984 كان يكتبها للمستقبل، كان يكتب سطوره في إعلان للأمل في تغيير الحاضر ولمستقبل أفضل .. أي حاضر هذا الذي أسعى لتغييره؟ أنا لا أعلم بشئ ممكن أن يلغي ذاك الملل .. أ أقتل أحداً؟ أ ذاك سيشعرني بالإثارة؟ إن تحولت لقاتل متسلسل عشوائي لا يعرفه أحداً، يمكنني فعل هذا، أبدأ بشخص واحد فقط، واحداً فقط .. ماذا سيحدث؟ إذا خططت جيداً لن يجدني أحداً، ثم ماذا؟ أ سأحتاج لقتل شخص آخر؟ ذاك عبث .. ناهيك عن الألم الذي سيحيط بأقارب الضحية ومحبيها، لمَ أتسبب في ذاك الألم لأحد؟ أليس ألم الوجود كافياً؟ أليس هذا دور الوجود؟ أن يؤلمنا بوجوده؟

أكتب هذه السطور وأنا أنتظر رسالة من امرأة آخرى غير صديقتي .. إثارة اللقاء الأول ليست مملة .. ولكن كم من لقاء أول سأحتاج لكسر ذاك الملل؟ و كم سيتحمل غروري من مرات رفض من النساء؟ كل امرأة تختلف عن الآخرى في رائحة رحيقها .. كل امرأة مغامرة .. يتشابه اللقاء الأول كفك لغز محيّر أو إيقاف قنبلة موقوتة من الانفجار بلحظات محدودة .. رسالة خاطئة، بل كلمة واحدة خاطئة أو دقيقة في ليس موعدها ويفسد كل شئ .. إنها اللعبة .. أنا لا يثيرني الجنس بقدر ما تثيرني الملاحقة العقلية التي تلغي الملل .. يثيرني الوصول للجنس، إنها اللعبة .. إنها اللمسة البريئة المتعمدة لكتف المرأة في اللقاء الأول .. إنها تعمد ملامسة الأكتاف أثناء السير لتقليل أثر الشرارة عند الفعل الأكثر صراحةً .. إنها الاحتواء الأول .. النظرة التي تسبق القبلة الأولى .. تلامس الشفتين للمرة الأولى .. عندما تكون كل حواسي متيقظة تحاول قراءة أكبر عدد ممكن من المعلومات للمساعدة في فك القنبلة .. وعلى الرغم من دفاعات المرأة وأسوارها، وصعوبة السير في دهاليز أنفاق قلعتها، إلا أنها في لحظة ما، بضغظة زر ما، تلغي كل دفاعاتها وتفتح باب قلعتها .. ها هي فتحت الباب .. ها هي اللعبة وقد انتهت .. لقد فزت ويمكنك الآن الارتواء من رحيقها كما تريد ..تصير المرأة المهاجم الأول الآن .. يمكنها السيطرة عليك بلمسة، بكلمة، بنظرة، بفكرة! .. يمكنها بناء الدفاعات مرة آخرى بالطبع، ولكن ذلك لم يحدث لي من قبل .. إن دخلت القلعة أنا من أخرج .. أنا من أملّ و أكتفي .. أخرج والأبواب مفتوحة .. لا أنظر ورائي، أو أنظر .. أتصدق كلماتي؟ .. أعد التفكير

ذهبت الآن للتحقق من هاتفي، لم تر رسالتي بعد .. أم رأتها ولم تضغط عليها؟ .. بالتأكيد رأتها وتلعب بيّ .. هذه حركتها .. يا لها من امرأة مملة .. تلعب بالوقت بديلاً للكلمات والحركات .. هذه أسهل طريقة لعب، وهي غير ممتعة البتة .. كل ما أحتاجه هو الصبر، ولكن الصبر والملل لا يجتمعان .. لا يمكنني الصبر .. يا لها من شريرة، إنها تقتلني .. إذا أردتي رفضي فلتقومي به .. أرسلي ليّ قائلة: أنا لست معجبة بك .. ولكن لا ترسلي شيئاً وتتركيني محتاراً؟ .. أنا أكره الفشل، أكثر مما أكره النجاح .. إن النجاح ممل، ولكن الفشل مؤلم .. أو ليس الملل مؤلماً؟ … لا أعلم، ولكن أفضّل أن أكون رابحاً مكتئباً على أن أكون خاسراً مكتئباً.

وأيضاً النجاح يجعل من انتحارك لغزاً أكثر مما هو شفقة .. فلان انتحر بعد أن تم رفده من عمله، "يا حرام"، ذاك مثير للشفقة .. لن أعطي الناس هذه الفرصة ليشفقوا عليّ .. تباً للناس جميعاً .. يوماً إن انتحرت، سيكون يوم ربحت شيئاً كبيراً، يوم ترقية لي لأصبح رئيس شركة عالمية أو تولي منصب رفيع المستوى .. سأجعل الناس تقطب حواجبها حين تسمع الخبر، وينظرون لأحدهم الآخر في صدمة وحيرة .. سأكون على كل صفحات  الصحف مثيراً لنظريات المؤامرة واغتيالي من قبل مخابرات معادية أو صديقة . أو تم قتلي بواسطة شخص حقود .. لغزاً لا يمكن حله .. نعم .. يجب أن أظل ناجحاً .. هذا يمنحني خطة ب … أنا متناقض، لمَ أهتم بم يقوله الناس؟ فلأمت فاشلاً غير عابئاً بالناس .. ولكني أعبأ بآرائهم .. يا ليّ من منافق .. إني منافق مكتئب بائس ناجح و أحمق !

يا ليّ من أحمق .. إنها تحبني و تتمنى أن أحبها مثلما تحبني .. وأنا أتركها لألعب مع نساء آخريات .. يا ليّ من ندل .. ولكنها ليست خطيتي يا حبيبتي، إنها الحياة، إنه الملل، أنا أبحث عن الإثارة .. الإثارة وفقط .. لقد مللت .. تباً لي! بل قل تباً للوجود!

Comments

Popular posts from this blog

Her, Herself, and I

Ether – A Short Story

The Death Wrap – A Short Story