العدل - قصة قصيرة


 خرج رجب من المدرج بعد محاضرة د.سيد، خرج مسرعاً جارياً، خطواته تسبق بعضها وهو لا يريد أن يلحق بميعاد ما أو أي سبب يبرر تلك العجلة. نظرة واحدة لوجه الابن الأكبر لعم عمران، أمهر من يلعب الدومينو في قهوة البريمو في كفر التين، و تعرف أنه مكتئب حزين. حتى لو لا تعرفه شخصياً، فمه مطبق ملتصق، يكاد يصطدم بزملائه المارين حتى يتفاداهم في اللحظة الأخيرة، عينيه تحلق بعيداً ثم قريباً ثم جانباً، يسير في طريقه للمنزل بغريزته و عقله الباطن فقط لا غير. من يراه يمكنه المراهنة أنه إن أوقفه وأغمى عينيه و سأله أين هو في طريقه الآن، لن يستطيع أن يحدد أو يعرف. يسير كمن يذهب لجنازة صديق قديم، لا يريد أن يتذكر الفاجعة حتى لا يبكي أمام المارة في الطريق، ولا يستطيع أن يركز في شئ آخر سوى فراق طارئ قاسي طعنه في قلبه الشاب المضئ.

أفاق رجب من وجومه وأفكاره الكثيرة الموجعة على ضجيج موقف الميكروباصات، لا يمكنك التفكير في أي شئ أو حتى السرحان في ظل هذه الضوضاء المتوحشة. أسماء كل الأماكن القريبة يتهاتى بها كل السائقين وتباعيهم، لن يرضوا بورقة يكتبون فيها اسم وجهتهم، ولكن أكل العيش يحب الخفية. يسألونه بأسلوب استفهام يمكن اضافته للغة بعد أن صار متعارفاً عليه، وهو استخدام اسم المكان بلهجة استفهامية، "كفر العنب ؟"، فيهز رجب وجهه عدة مرات خفيفة مبيناً النفي، فيستفهم التباع مرة آخرى بنغمة مضحكة مع التركيز على حرف العين "كفر العععنب ؟" ، فيتذكر رجب أن هذا ما تفعله برامج الموبايل حينما تسألك مرة أخرى إذا كنت متأكداً أو تهرج مع جهازك الشخصي، فيبتسم ابتسامة لم يرها التباع ويهز وجهه مرة أخرى مؤكداً عملية النفي.

- علىّ الحرام أنا لسة راكبها امبارح بـ 2 جنيه

- يا عم خلاص، روح اركب امبارح .. الأجرة 2 ونص ، الموقف كله شغال كدة، واللي مش عاجبه ينزل

 صوت فتح باب الميكروباص المنزلق بعنف شديد

- الأجرة 2 ونص يا حضرات

ثم أغلق السائق الباب بعنف أكبر سيترك مكانه و يرتجل ليمسك في تلابيب أي راكب إذا أغلق الباب بهذه الطريقة.

يكمّل رجب طريقه ذاهباً إلى نقطة نائية في الموقف، لا ينتظر أن يسمع صراخ "كفر التين" فهو يعلم جيداً أن وقوف الميكروباص في هذه النقطة يعني ذهابه لكفر التين. يجلس جانب الباب منتظراً امتلاء بقية المقاعد، مجيباً بإيماءة خفيفة بالرأس على كل من يستفهم منه من الركاب الجدد "كفر التين؟". يكتظ الميكروباص بالركاب و تمتلئ كل المقاعد، فيتطوع أي راكب بالمناداة على السائق الذي كان يحتسي الشاي على مهل مع زملائه

- خلاص يا أسطى

فيلقي السائق السلامات الممتزجة بالشتائم على زملائه و يأخذ مكانه خلف المقود، ثم يتلقى رد الشتائم والسلامات وهو عابر بسيارته أمام زملائه.

 يشعر رجب بوخز مستفز في مؤخرته، كرسي مكسور مرة أخرى وبه حديدة بارزة تؤرق من يجلس عليها. يا للحظ، حتى الكرسي اليتيم الذي يجلس عليه في هذا الميكروباص البائس. القذر.. الذي لا يليق ببني آدمين .. الخطير و الذي يهمل كل عوامل الأمان وخلافه .. الـ…. ماله هذا اليوم، منذ الصباح وهو "يتنمرد" على كل شئ ، ما باله لا يطيق المواصلات ولا ملابسه ولا حتى شكله و جسمه القصير الضعيف. اليوم هو يشعر بضعفه و حقارته أكثر من أي يوم، اليوم لا يستطيع التركيز في أي شئ، لا يستطيع التركيز حتى في طريقه. لم يستطع حتى تذكر موضوع محاضرة د.سيد أو أي شئ عن المحاضرة. و محاضرة د.كامل من قبلها ؟ إنه حتى لا يتذكر ما إذا كان الدكتور قد وافق على تأجيل الامتحان أم لا. يا الله ! ما هذا اليوم و لما كل هذه النمردة. أم هي حقاً نمردة ؟ ابن الأغنياء حين يجد غذائه كوسة أو فاصولياء فيلقي بالطعام على الأرض فهذه هي النمردة، ولكنه ليس بنمرود ! إنه غير راضي بواقعه، وهل يجب عليه الخنوع له ؟ هل يجب عليه أن يسف التراب و يعيش على حاله و يكون راضياً ؟ من قال هذا ، أمه تكرر له مراراً أن الرضـ… و لكن ماذا تفهم أمه، سيدة جاهلة قضت عمرها في ريف بائس و حياة بائسة. "استغفر الله العظيم"، هكذا يردد لنفسه حين تراوده تلك الأفكار، و لكن لم الاستغفار ؟ هل أخطأ ؟ لماذا يعتبر الناس قول الحقيقة المرّة عيباً ؟ لماذا أن تقول للأعور "أنت أعور" هو شئ بغيض ، إنه أعور ! هذه حقيقة ! إن لم يعلم الأعور بعورته، فشكراً لي إن أخبرته حتى يستفيق لواقعه البائس هو الأخر، إن لم أخبره بعورته لربما يحيا مخدوعاً ما بقى له من عمر .. "حياة خرا" .. "استغفر الله العظيم" .. ما باله هذا اليوم ، لمَ يكره حياته ؟ لمَ صار لا يطيقها ؟ صار لا يطيق رائحة أبيه المقززة وهو عائد من عمله ، أليس هذا هو العمل الذي جعله من هو عليه اليوم ؟ طالب جامعي بمستقبل واعد ؟ .. "هااااهاااااي ، قال مستقبل قال" .. ماذا بعد الشهادة ، سيصير فقيراً ولكن متعلماً ، و هناك من يقولون أن هذا لا يُعد تعليماً من الأساس .. حسناً ، سيصير فقيراً و لكن بشهادة ، بائس بشهادة عالية.

- يا بشمهندس … يا دكتور .. يا أستاذ … يا عم انت ماترد على أهالينا بقى قرفتنا

أفاق رجب من أفكاره على وخزات عنيفه في كتفه هذه المرة، كان قد نسي دفع الأجرة و السائق اشتد غضبه و هو يكرر:

- اللي مابعتش يبعت يا حضرات .. يا محترمين ..يا هوانم .. يا بشوات

أخرج الجنيهين ونصف و أعطاهم للرجل وهو يعتذر للسائق إن باله مشغول قليلاً

- ربنا يهدي سرك يابني

قالتها سيدة عجوز متبرعة بدعوتها لله … يأخذ رجب نفس عميق أدخل رائحة الطريق العفنة في أحشائه فأخرجه مرة ثانية مستاءاً … فعاد للاستياء مرة أخرى .. هو الشاب القصير ، ضعيف البنية ، سئ الرائحة رغماً عنه ، فهو لا يستطيع أن يشتري مزيل العرق الذي تأتي إعلاناته على الفضائيات ، ولا يستطيع أن يقوم بالاستحمام كل يوم .. ملابسه قديمة الطراز ، أسنانه صفراء ، شعره أسود كث ، حذاؤه بالي .. ولكنه لم يلحظ هذا سابقاً ، لقد لاحظه الشهر السابق فقط ، حين رأه زملاءه في الجامعة ، ولاحظ أن مظهره أقل منهم جميعاً ، لاحظ أنه أفقر منهم جميعاً .. كما لاحظ انه ليس الوحيد الأقل ، ووجد أن القليلين يجتمعون معاً ، ولا يختلطون مع الآخرين إلا قليلاً .. فهم لا يقدرون أن يشتروا الكانزات حين يشعرون بالعطش في هذا الطقس الحار، لا يستطيعون أن يأكلوا من المطاعم المنتشرة في أنحاء الجامعة وحولها .. لا يستطيعون أن يقوموا بتصوير أي ورق تجده أياديهم أو يسمعون عنه دون أن يتأكدوا من أكثر من مصدر أنهم بالفعل في حاجة إليه، و دون أن يصوروه إلا في أرخص مكتبة تقوم بتصويره .. إنهم ليسوا كالبقية .. البقية ينعمون في منازل وثيرة ، يأكلون ألذ المأكولات و أطيبهاً ، يشترون الملابس والأدوات التي يبتغونها .. البقية لديهم أب يشتري لهم أحدث الموبايلات الذكية و أحدث اللابتوبات .. البقية لديها نقود في جيوبهم ، يصرفونها كما يشاؤؤن .. يشترون الطعام و الشراب ، يشترون كتب و يصورون الورق المتاح ليقرأوه لاحقاً في مكاتبهم المكيفة .. لديهم نقود تجعلهم يخطبون و يتزوجون حين يشاؤؤن … بل حتى لديهم المعارف اللازمين ليجدوا وظائف جيدة يجنون منها نقوداً أخرى … يلبسون جيداً ، يتكلمون جيداً ، يبنون أجساماً ممشوقة جميلة في صالات الجيم المنتشرة في الأحياء التي يحيون فيها .. يتذكر رجب جيداً كيف يتعامل وائل مع الجميع ، جسم ممشوق ، وسيم ، شعره عجيب غريب لا يفهم رجب كيف يصففه ولكنه يعجبه ، أي فون آخر موديل .. يراه رجب جيداً ويلاحظ كيف تنظر له منّة، كيف تضحك على نكاته و حركاته ، كيف تصغي لرواياته و تتحرك عيناها السوداوتين تأثراً و حزناً و فرحةً و إثارةً مع نغمات حكاياته .. كيف ارتفع نهداها المثاليان شهقاً حين سقط كالأبله من فوق الصف حين كان يقفز متفاخراً برشاقته فوق صفوف المدرج .. كيف تنظر إليه من جانب عيناها بإعجاب فاضح .. كيف تبتسم له مودعةً حين تغادر ، كيف تحمر وجنتاها حين تلتمس أياديهم مصافحةً حين يلتقيان في الصباح .. كيف كانت مرتابة النظرات ، مشتتة التركيز ، تتصبب العرق و تتحرك في مكانها حين كان وائل يجلس بجانب يُمنى في محاضرة الأسبوع السابق.

- رجب ! كفاية كدة !

 فاجأه زميله هشام يوماً حينما كان يتأمل أناملها الرقيقة التي تنتهي بأظافر ملائكية مطلية بلون أحمر مثير ترتفع ثم تنخفض، تجئ يميناً و يساراً ممسكةً بقلم جميل، يتحرك برشاقة ليسطر كلمات تتغنى بأغاني ملائكية فوق صفحات من السحاب الأبيض الطائر  الذي يرفرف بـ

- رجب ! رجب ! .. يخرب عقلك ياض ، انت رحت فين .. بس بصراحة ، حتة كويسة

- حتة ايه ؟

فأومأ هشام ناحية منّة وقال خافضاً صوته

- الحتة يا دغّف .. ايه ، فاكرني مش واخد بالي .. دانت كل يوم تبصلها كدة و تتوهلك شويتين .. بس حتة كويسة

- انت عبيط يابني انت ! أبص لمين و حتة ايه ! شكل الحشيش ده بوّظ دماغك

- يابن المجنونة ‼ وطّي صوتك ! اييييييييه ‼!

- خلاص خلاص

قالها رجب مبتسماً أنه نجح في تغيير مسار الحوار دون أن يدرك هشام ما فعله.

يتذكر رجب جيداً كيف أن نظراته صارت ملحوظة، خاصةً من أصدقائه. فصار ينظر و يتابع بحرص و خفاء أمهر. ولكن كيف له أن يخرجها من فكره ؟ إنها أجمل ما رأى من بنات في حياته ، إنها أجمل و أرق من النساء التي يراها على صفحات المجلات الرخيصة التي يحضرها له محمود ، أجمل و أشرف من النساء التي رآها مرة على جهاز الكمبيوتر في المقهى، حين وعده الواد شعبان أنه سيريه شيئاً لم يره من قبل في حياته و قد صدق. إن إعجابه بمنّة موضوع مختلف.. "إعجاب ؟؟" .. هذا هو الإعجاب إذاً .. إنه يحب أن يتأملها ، يحب أن يتابع حركاتها ، لا يملّ النظر إليها وهي تكتب ، وهي تمشي ، وهي تتحدث وهو بعيد لا يسمع ما تقوله ولكنه يبتسم حيت تضحك ، يتأثر حين تتأثر .. كم تمنى أن يتحدث إليها ، إنه يعلم أنه يفكر فيها كثيراً .. حتى حين ينظر لتلك المجلات ليشبع شهوته ، يبدأ فقط بالصور ، ثم يغلق عينيه و يتخيلها .. لا يتخيل أي شئ مبتذل .. يتخيل فقط أنه يتحدث إليها .. يراها في خياله وهي تلمس يديه و تتحسس راحتهما بأناملها الرقيقة صاعدةً إلى ذراعيه.. يشعر بلهيب أنفاسها الدافئ على أذنه وهي تهمس إليه معترفة له بمشاعرها تجاهه .. وتصل أحاسيسه إلى ذروتها حين يتصورها وهي تطبع قبلة الحياة على وجنته الناشفة القذرة … فكيف تنظر إليه ؟ .. كم تمنى أن يتحدث إليها عن قرب ، ولكن ، هل ستتحمل رائحته ؟ .. كيف يتخيلها قريبة منه دون أن تنفر من مظهره السئ … كيف يتخيلها تتطلع إليه بعينيها اللتين تجعلانه مستعداً أن يقتل من أجلهما، وهي أطول منه قامةً فهو من سيتطلع إليها إن صارا قريبين … كيف يتخيل هذا وهو يعلم أنه لا يستطيع الذهاب مع شلتها إلى الكافيتيريا، فما بالك أن يعزمها في مطعم مثلاً … كيف يفكر فيها وهو سمعها مرة تتحدث فسمع أكثر من كلمة باللغة الانجليزية لم يستطع استيعابهم … لغتها محتلفة ، رائحتها مختلفة ، مظهرها مختلف ، تعيش في مكان مختلف .. إنها حتى لا تراه .. هذا ما أقنع نفسه به فلم يعد يشعر بالحرج حين يطيل النظر إليها ، هي لا تراه .. وكيف عساها أن تراه القصير الفقير الذي سيموت قصيراً فقيراً .. "دين أم ديه حديدة في الكرسي" قالها لنفسه وهو ينظر نظرة كراهية و اشمئزاز ناحية السائق الذي لم يره بالطبع .. و لمح وجهته فجأة ، فصرخ في السائق

- على جنب يا أسطى

- حد نازل ؟

- أيوة يا أسطى على جنب !

نزل رجب من الميكروباص و بدأ في السير تجاه منزله ، يسير نحو ربع ساعة فقط ، هي المسافة بين الشارع الرئيسي ومنزله المتواضع .. كم حمد ربه على تلك المسافة القريبة للشارع الرئيسي … قبل أن يتطاول على ربه بعد أن رأى من زملائه من يركن سيارته داخل الجامعة صباحاً .. "استغفر الله العظيم" .. صار يرددها كثيراً في الآونة الأخيرة .. يشعر بالندم على أفكاره ، و يعلم أنه يذنب إلى ربه بهذه الأفكار .. عليه أن يشكر الله على الحلوة والمرة كما علمته أمه .. في السراء و الضراء كما رباه والده .. "الحمد لله على كل شئ .. غيري مش لاقي اللقمة" هكذا يقول لنفسه نهاية كل حلقة من الحلقات السوداء للأفكار الكارهة لواقعه المر … ثم يقول بصوت خافت "وغيري عايش حياته" .. فيعود مرة أخرى لـ "استغفر الله العظيم ، و بعدين معاك بقى !" .. يكمل رجب طريقه وهو يتذكر الامتحان الذي لم يؤجله د.كامل ، أم قام بتأجيله وهو لم يكن مصغياً ؟

- اقف مكانك ماتتحركش

التفت رجب للصوت فجأة

- اقف مكانك عشان ماتتأذيش

وجد رجب نفسه محاطاً بثلاثة أفراد ، ملابسهم تدل أنهم ليسوا من هذا المكان ، مظهرهم مخيف و وجوههم غير مطمئنة

- هات اللي معاك و روّح لأمك سليم

قالها أضخمهم وهو يقترب منه ، و رأى رجب نصلاً صدئاً لمطواة يمسكها البلطجي و يهدده بها ، و يقف الاثنان الأخرين مترقبين أي حركة مفاجئة منه .. ليس معه نقود و لكن معه الموبايل .. الموبايل ليس حديثاً أو ثميناً و لكنه حصل عليه بعد صراعات مع والده و لن يتخلى عنه .. لن يستطع أن يقول لزملائه أنه لا يملك موبايل أو رقماً يتصلون به عليه .. لا يستطيع أن يقول لأبيه أن هاتفه سُرق منه و أنه يريد واحداً أخر .. إن أخذوا الهاتف لن يستطيع أن يشتري واحداً أخر .. أخذ رجب يفكر في العدو ، "الجري نص الجدعنة ، و في المواقف اللي زي ديه ، الجدعنة كلها" هكذا علّمه محمود حين حكى له عن هروبه من محاولة سرقة مشابهة .. عليه أن يعدو .. بسرعة .. في أي اتجاه .. إنه محاط من ثلاثة اتجاهات .. الضخم يقترب و الوقت يداهمه .. يقترب منه بحرص وكأنه يقرأ أفكاره ويعلم أنه لن يستسلم

- ماتحاولش تجري .. حتتعور .. طلّع الموبايل و محفظتك عشان ماتتأذيش

نظر إليه رجب نظرة ممتزجة المشاعر .. نظرة خوف .. نظرة طلب الرحمة .. نظرة كراهية ..  ثم استجمع كل ما لديه من قوة:

- حاضر

لقد قرر ما سيفعله ، لقد رآها في فيلم من قبل ، سيضع يديه في جيب القميص كأنه سيحضر شيئاً ، ثم سيجري في الاتجاه الأنسب .. يجب أن يجري ناحية المنزل ، إن جرى ناحية الشارع سيطيل به البقاء في المنطقة المعزولة … ولكن هذا معناه أنه سيدور قبل العدو .. إنه سريع .. جسمه خفيف و سريع .. كما أنهم بالتأكيد تحت تأثير المخدر أو الخمر أو ما شابه .. سيكون بخير .. فقط عليه أن يعدو جيداً

- يابن الكاااالب

قالها الضخم حين رآه يدور و يبدأ العدو … كان على رجب المرور في وسط الرجلين الآخرين ، و بالفعل دار دورة سريعة و اتجه جرياً بينهما تجاه المنزل .. كانت الخطة محكمة و لكن أحد الواقفين ضرب بيديه ضربة طائشة لإيقافه فأصابته في رقبته فسقط … سقط على الأرض من ضربة واحدة ، يا له من ضعيف

- أ** يا دومة ! … يخرب بيت أمك … قلت ميت مرة محدش يطلع مطوته غيري … أ**

صرخ الضخم متجها ناحية دومة الذي أطاح برجب بضربة واحدة … رجب كان ساقطاً على الأرض لا يفهم لماذا هذا الضخم غاضباً تجاه من أوقفه .. ولكنه لا يستطيع أن ير وجه ضاربه .. يوجد ضباب كثيف .. هذا شئ غريب نظراً لهذه الفترة من العام ، فالشمس عادةً ما تكون حارقة و السماء صافية .. أه ، السماء .. يا له من مساء جميل ، و لكن يا لها من رائحة للجو .. رائحة غريبة .. ما هذه الرائحة ؟!

- يلعن د** أمك يا دومة … و رحمة أمي لأبلغ عنك أول ماتسأل … انت مجنون ؟!

- خلاص ياحمة اللي حصل حصل .. شوف لو نطلع من الواد بحاجة ويلا بينا … فتشه يا دومة

- انت مجنون يا بلال ، مجنوووون؟؟؟‼!

صرخ أحمد بجنون ، ثم جرى فجأة .. دون سابق إنذار .. أخذ في الجري بجسمه الضخم الذي من الواضح أنه لم يتعرض لمثل هذا النشاط الزائد من سنوات .. ثم انحنى بلال بنفسه على رجب تاركاً دومة وهو زائغ العينين يحاول أن يمسح الدماء التي تلوث يديه فلا ينوبه أكثر من نشر الدماء في كل مكان

- معلش يا كابتن .. والله ماكنا نقصد ولا كنا ناويين نأذيك … بس انت اللي ماسمعتش الكلام ، احنا حذرناك وانت اللي ماسمعتش الكلام … أه … لو كل واحد يسمع اللي بنقوله عليه … أه .. كان زمانك كويس … أه والله … ايه ده ؟ .. موبايل مش طاطش كمان ؟ … و 6 جنيه و ربع ؟ … أ** … طالع تجري عشان موبايل مايتباعش و معاهم 6 جنيه و ربع ؟!

لا يدري رجب لمَ هناك شخص فوق رأسه مباشرة .. يسمع أصواتاً .. هل يتحدث إليه هذا الرجل ؟ … "6 جنيه و ربع" … سمع شيئاً حول 6 جنيه و ربع ، كيف للرجل أن يعرف أن محفظته بها 6 جنيه و ربع ؟ … هذا يوم غريب … و رائحة أغرب … أصوات ترتفع .. أصوات جميلة … أهذا ضوء ؟ … من الممكن أن يكون ضوءاً .. ولكن المهم أن يعرف الآن مصدر تلك الرائحة الغريبة … قام الرجل ولا تزال الرائحة موجودة … إذن ليس رائحته .. إن فمه أيضاً صار مبتلاً … ولكن هذا ليس ماءاً .. ما هذا الطعم أيضاً ؟ … الضوء تزداد شدته … إنه يرى وجهاً في الضوء … إنه وجه مبتسم … إنه يعرف هذا الوجه ، طالماً رآه مضيئاً … "منّة ؟" .. قالها بصوت لم يسمعه هو .. إنه وجهها ، ابتسامتها ، اشراقتها و الهالة التي تحيط بوجهها حين يتخيلها في أحلامه … تقترب منه … يسمع صوت ضحكاتها الرقيقة المتتالية .. ولكنه لا يراها تضحك … يسمع أصوات جميلة .. موسيقى ملائكية حالمة … يشتد الضوء .. تقترب منّة … يقترب وجهها … تزداد حدة الموسيقى … صار الضوء لهيباً يحرق رقبته .. هذا غريب ، لما لا تحترق عيناه بينما يُلهب الضوء رقبته … هذا ليس مهماً على الإطلاق … منّة اقتربت من الالتصاق به .. إنها تضم شفتيها الورديتين و ترفعهما لتضع قبلة طال حلمه بها على جبهته الحارة .. و قبّلته.

تمت
الاسكندرية، مصر، 16 أغسطس 2014

Comments

Popular posts from this blog

Her, Herself, and I

The Death Wrap – A Short Story

Ether – A Short Story