2071 - قصة قصيرة

عاد عمر من العمل مرهقاً، كان يوماً مملاً وممتلئاً باجتماعات نازفة للوقت والمجهود. جلس على كرسيه المفضّل الوثير، طلب من المكيّف أن يزيد من البرودة، حذّره المكيّف أن حرارة جسمه مازالت مرتفعة والبرودة يمكن أن تصيبه بالبرد خاصةً أن عدد الكرات البيضاء في دمه أقل من المتوسط طبقاً لآخر تحليل، سبّ للمكيّف ثم ردد الرقم السري الإشرافي كي يجبر المكيّف على إطاعته ويتجاوز جدار الحماية. طلب من الخادم الآلي أن يحضر له شاياً ساخناً مع قطعة من الحلوى وكوب من الماء المثلج، اضطرب الخادم قليلاً وأصدر أنيناً ميكانيكياً وارتفعت صوت مروحة التبريد الداخلية، تعجّب عمر للحظات قليلة قبل أن يتدارك الموقف حين ذكّره الخادم بلطف أن آذان المغرب لم يحن بعد وأن اليوم هو الأول من شهر رمضان و سأله محرجاً عن الرقم السري الإشرافي كي يحضر له ما طلب قبل آذان المغرب. شكره عمر مقتضباً وسأله عن موعد المغرب، رد الخادم بأن باق من الوقت ثلاثة وأربعين دقيقة و اثتنين وخمسين ثانية. تأفف عمر ثم استغفرسريعاً واضعاً وجهه داخل راحة يديه الاثنين مردداً بضع الدعوات الدينية في خشوع صادق. ثم قرر أن يضيع تلك الدقائق في تصفح الفيسبوك. طلب من خادمه أن يحضر له متصفح الفيسبوك وسأله عما إذا كان قد شحنه كما طلب منه. رد الخادم بإيجاب وهو يقوم بإحضار لوحة معدنية لامعة كبيرة، ثم قام بوضعها أمام عمر ثم وضع يده عليها فأنارت ثم بدأت في الامتداد والتدوّر حتى أحاطت بعمر من كل الجوانب وأخفته عن الأنظار.

وجد عمر نفسه في رواق طويل لا نهاية له محاطاً بأبواباً ونوافذ في كل اتجاه. هناك أبواباً في السقف إن استطعنا تسمية ذلك سقفاً، إن الرواق أشبه باسطوانة معدنية متوسطة الاضاءة واللون الأزرق مغطياً كل شئ. عمر يتحرك فوق سحابة منيرة، يشير لها بالتحرك للأمام أو للخلف، لليمين أو اليسار، أو حتى للنوافذ السفلى على الأرض أو الأبواب التي تملأ السقف. جاء جارياً ناحية عمر قزم أزرق، هو يعدو بقدمين ولكن قدماه لا تلمسان شيئاً، مجرد جرافكس تشعرك بأننا مازلنا في الخمسينات وقتما كانت أجهزة الواقع الافتراضي ضعيفة وشبيهة بأفلام كارتون القرن الماضي. وجه القزم كان شبيهاً للغاية بعمر ذاته ولكن أصغر سناً.
- مساء الفل يا عمر بيه. الفيسبوك بيقولك رمضان كريم وإن شاء الله يعيده علينا بالخير واليمن والبركات
ابتسم عمر ابتسامة كبيرة و رد بسخرية ضارباً كف بكف
- اللهم قوّ إيمانك يا أخت ماكسيما، والله مارك  ده عرف يربي، الله يرحمه بقى. وايه تاني يابني، ماقالولكش تقولي الامساكية كمان؟
- لو حضرتك تقصد "امساكية رمضان"، فآذان المغرب قدامه تسعة وثلاثين دقيقة وأربعة عشر ثانية. كل سنة وحضرتك طيب
- هههه وانت طيب يا سيدي. ايه الأخبار النهاردة؟
- فيه 3 نوتيفيكشنز على موقف حضرتك الأخير، وعلى فكرة فيهم اتنين سايبين موقف على موقفك ولسة جوة أونلاين، ممكن حضرتك تخشلهم قبل ما حد فيهم يمشي. وفيه تريند النهاردة على موقف حصل في تايلاند، وناس كتير مسجلة مواقف ليها علاقة باللي حصل في ألمانيا امبارح. تحب حضرتك تشوف أي حاجة من دول ولا عايز تعدّي تاخد فكرة عن الحاجات التانية؟
- وديني للموقف بتاعي لما نشوف الناس ديه عايزين ايه
أمسك الأفاتار بحبل متصل بالسحابة التي يمتطيها عمر وبدأ في الجري مخترقاً لدهاليز تظهر وتختفي ونوافذ وأبواب تظهر من اللاشئ ثم تختفي حتى توقف فجأة أمام باباً أزرقاً، وقبل أن يدير مقبض الباب نظر إلى عمر وقال
- حضرتك لسة مش عايز تغير اللون الأزرق؟ فيه تشكيلة جديدة وميكسات ألوان لسة نازلة، ممكن تختار أي تصميم بدولار واحد بس.
- افتح واخلص مش عايز
- لو حضرتك مش عايزني أقولك تاني على العروض اللي بتنزل، ممكن تخلي متصفحك اشتراك بلس بـ 5 دولار في الشهر
- شكراً مش عايز، ممكن تفتح بقى
- طبعاً يا عمر بيه، أنا في خدمة حضرتك
فتح الأفاتار الباب ودخل عمر لموقفه. كان عمر قد سجل موقف في الصباح قبل أن يذهب للعمل، يرد فيه على بعض المواقف التي سجلها أصدقاؤه القدامى من الأقباط تعقيباً على ما حدث بالأمس على طريق الناصرة الجديدة الصحراوي. ثلاثة أطباء من الأقباط الذين مازالوا يعملون بالقاهرة، كانوا في طريق العودة لمنزلهم حين استوقفتهم سيارة بها ملثمون مسلحون، وهددوهم بملازمة مدينتهم وعدم العودة للقاهرة مرة آخرى، اثنان منهم رفضا التهديد وتحدا المسلحون فأطلقوا عليهما النار فماتوا في الحال، ثم أطلقوا النار على راحتي يدين الثالث وتركوه ينزف على الطريق ليكون عبرة للآخرين. غضب الأقباط كثيراً ولم تنم الناصرة الجديدة واضطرت الشرطة لإطلاق قنابل الغازات المسيلة للدموع. توفي ثلاثة أقباط في المشاحنات مما زاد من سخونة الموضوع وكان حديث الساعة في مصر. سمع عمر الأخبار بالأمس وتعجّب من رد فعل الطبيبين، وتعجّب أكثر لأنه لم يعلم أنه مازال هناك أقباطاً يعملون بالقاهرة، ظنّ أن الجلاء كان كاملاً طبقاً لإتفاقية 46، ولكن لم يكن ذلك ما أثار غضبه وجعله يسجّل موقفاً. عند تصفحه لردود الأفعال، لاحظ أن العديد من الأقباط من الذين يعيشون خارج مصر والذين كان على علاقة بهم قبل أحداث الثلاثينات، مسجلون لمواقف يتعرضون فيها للدين الإسلامي. فمثلاً، زميله في الجامعة أندرو رامي، سجّل موقفاً يدين فيه تعاليم الأزهر و يشير بالكلام لشيخ من شيوخ العلماء أنه من المحرضين على الأقباط ومن الرافضين لإقامة مدينتهم على أراضِ مصرية مسلمة، وأن هذه التعاليم وهذا الشيخ هم من يسببون هذه الأفعال الإرهابية، وأن هؤلاء الإرهابيين دافعهم لتلك الجرائم هو الدين وتعاليمه المتعصبة. غضب عمر كثيراً حين رأي هذا الموقف والعديد من المواقف المشابهة. فسجل موقفاً بدوره يتحدث فيه أن الإسلام هو دين السلام، وأن هؤلاء المجرمون ليمثلون أنفسهم، وأنهم جزء من مخطط أكبر للمساس بالدين الإسلامي. وأن الأقباط متوهمون، فتلك الاعتداءات هي اعتداءات على نفوذ الدولة. فالأقباط يعيشون في سلام في مدينتهم لعشرات السنين دون أن يتعرض لهم أحد وهم مثلهم كمثل أي مواطن مسلم في المحافظات المسلمة.

دخل عمر فوجد أندرو جالساً مع شخص أخر لا يعرفه، فجلس هو على الكرسي الأزرق العالي الوثير حيث أن هذه الغرفة هي غرفة موقفه هو، ورفع يديه في إشارة للسلام
- ايه يا شباب صباح الفل، ايه تعليقاتكوا على كلامي؟
- كل سنة وانت طيب يا عمر الأول
- وانت طيب يا أندرو، تعيش
- حبيبي تسلم .. ماينفعش تنكر يا عمر إن الأزهر متطرف
- نعم ياخويا؟ وانت بتتكلم عن الأزهر تتكلم باحترام
- احنا حنخش لبعض أفية يا عمر، قصدي إن فيه تعاليم بتتقال متطرفة، شفت الهولوجرام بتاع الشيخ الأزهري اللي انت كنت مطيره امبارح؟ ده مش متطرف؟
- لأ مش متطرف، لكم دينكم ولي ديني يا أندرو، الراجل بيدرس دينه مابيقولش حاجة من دماغه. انتوا اللي كل شوية تقعدوا تقولوا اضطهاد ومواطنين درجة تانية وكلام البابا بتاعكوا، مفيش الكلام ده، الناس ديه إرهابيين والإرهاب ملوش دين
- بس على طول الإرهابيين دول مسلمين يا عمر، وعلى طول اللي بيتقتلوا أقباط
- اللي بيتقتلوا مصريين، الإرهاب على مصر كلها

فجأة صدت أجواء الغرفة صوت انفجار وتحطّم باب الموقف وسقط وشاع ضوء أحمر في أرجاء الغرفة. ودخل رجلُ كبير في السن بلحية بيضاء وممسكاً بآلة معدنية كبيرة استخدمها لتحطيم الباب، رغم كبر سنه إلا أن ملامحه كانت وسيمة إلى حد كبير.
- بابا؟!
قالها أندرو بتعجّب وهو ينظر للشيخ المجنون. فنظر عمر له بتعجب
- دكتور رامي؟ انت ازاي كسرت الباب كدة
- بابا أنا اترجيتك ماتعملش اختراق للفيسبوك تاني، المرة ديه ممكن تخش السجن!
- يقبضوا عليّ مش مهم، يلا يا ولاد الكلب من هنا
فجأة بدأت مياه تنهمر من كل مكان عليهم جميعاً فاضطر عمر للهرب من ذلك الجنون ووجد الأفاتار الخاص به يجره وهو يقول
- هناك اختراق للحماية يا عمر بيه، معلش مش حينفع تكمل في الفيسبوك لحد ما الموضوع يتصلح
نظر عمر للخلف ورأي العديد من الأقزام يهربون يجرون سحب أصحابهم ورأي رجالاً عماليق يحملون أسلحة ثقيلة يمسكون بوالد أندرو ويحملونه بعيداً وهو يصرخ
- يا ولاد الهبلة كفاية … كفاااااية … كفااااااااااااااااااااية
*تمت*
نيويورك، الولايات المتحدة - 28 مايو 2017
 

Comments

Popular posts from this blog

Her, Herself, and I

The Life Tunnel

Ether – A Short Story